درس جد منظم لمفهوم الحقيقة مجزوءة المعرفة

في هذا الموضوع أقدم لكم درس مفهوم الحقيقة بطريقة جد منظمة المفهوم الذي يندرج ضمن مجزوءة المعرفة والذي يحتوي على ثلاث محاور المحور الأول : الرأي والحقيقة والمحور الثاني معايير الحقيقة والمحور الثالث الحقيقة بوصفها قيمة 




1 - المحور الأول : الرأي والحقيقة 

يتناول هذا المحور من مفهوم الحقيقة إشكالية طبيعة العلاقة بين الرأي والحقيقة حيث سيتم الإستفهام عن طبيعة العلاقة هل هي علاقة توافق وانسجام أم هي علاقة تعارض وتضاد ؟

حقائق القلب وحقائق العقل :  بلييز باسكال 

يؤكد المفكر الفرنسي بييز باسكال أن العلاقة بين الرأي والحقيقة ليست علاقة تضاد وتعارض كما يزعم البعض بل هي علاقة توافق وانسجام ويقصد باسكال بالرأي حقائق القلب بينما يقصد بالحقيقة حقائق العقل ويعتبر أن بلوغ الحقيقة لا يتم بواسطة العقل فقط بل يتم كذلك بواسطة آلقلب فمثلما للعقل حقائقه للقلب حقائقه أيضا ويدعو باسكال إلى بناء خطابه بكامله على المعارف الصادرة عن القلب والفرق القائم بين القلب والعقل هو أن العقل يبرهن على القضايا التي يصل إليها بينما القلب يشعر بالمبادى الأولى التي يحصل عليها ومن السخافة حسب باسكال أن نطلب من القلب أن يبرهن على مبادئه وبالمثل من السخافة أن نطلب من العقل أن يشعر بقضاياه فالقلب يشعر ولا يبرهن والعقل يبرهن ولا يشعر .

العلم والرأي : غاستون باشلار

يتبنى العالم الإبستمولوجي الفرنسي غاستون باشلار موقفا معارضا ومخالفا للتصور الذي قدمه باسكال فالحقيقة العلمية والرأي العلمي على طرفي النقيض فالرأي هو أول عائق يحول دون قيام حقيقة علمية لذا يجب هدمه وتخطيه والعلم حسب باشلار يبدأ عندما يتم القطع مع المعرفة العلمية المبنية على الأراء والإنطباعات ، إن الرأي من الناحية النظرية دائما على خطأ لأنه لا يفكر غالبا وإن فكر فإن تفكيره سيئ وهذا ما يعني استحالة بناء أي شيئ على الرأي . هكذا يتضح أن العلاقة القائمة بين الحقيقة العلمية والرأي علاقة تعارض وتضاد فالرأي عائق ابستمولوجي يجب هدمه وتخطيه لبناء معرفة علمية حقيقية .

2 - المحور الثاني : معايير الحقيقة 

سيتم التطرق في هذا المحور إلى مسألة معايير الحقيقة أي المقاييس التي يتم اعتمادها للتأكد مع أننا بصدد الحقيقة فعلا لذلك سيتم التساؤل عن المعيار الضامن للحقيقة هل هو الحدس والإستنباط أم هو الحقيقة دائما ؟

الحدس والإستنباط : روني ديكارت 

ينتمي الفيلسوف الفرنسي روني ديكارت إلى المذهب العقلاني الذي يعتبر العقل هو السبيل الوحيد لبلوغ الحقيقة إذ يتم الإعتماد في ذلك طريقتين اثنتين : الحدس والإستنباط ، والمقصود بالحدس هو ذلك التصور الصادر عن ذهن خالص والناتج عن دور العقل وحده حيث يكون بسيطا ومتميزا إلى درجة لا يحتمل الشك بشكل مطلق ويقدم ديكارت على ذلك أمثلة من قبيل أن كل واحد منا يدرك بالحدس أنه موجود وانه  ويفكر وأن المثلث يعرف بثلاثة أضلاع فقط وأن الدائرة تعرف بمساحة واحدة وممادام الإنسان لا يمكنه أن يدرك بحدس الأشياء البسيطة والمتميزة فلا بد من عملية الاستنباط لاستنتاج حقائق جديدة انطلاقا من حقائق أولى والمقصود بالإستنباط إدراك مركب وغير مباشر تتم فيه حركية متصلة بالفكر ويتم الإعتماد على حقائق الحدس كنمط لإستخراج حقائق أخرى فالحدس والإستنباط معياران لفحص الحقائق وتميزها من الأخطاء فهما أساس المنهج المؤدي إلى الحقيقة .

الحقيقة معيار ذاتها : باروخ سبينوزا 

باروخ سبينوزا يعتبر الحقيقة معيار ذاتها فهي بمثابة النور الذي يمكن رؤيته كلما ظهر فهي لا تحتاج إلى من يكشفها أو يؤكدها ما دامت تكشف وتؤكد نفسها لهذا اعتبر اسبينوزا الحقيقة معيارا لذاتها لأنه لا يوجد شيئ أكثر وضوحا أو أشد بداهة من الفكرة الصحيحة ليكون معيارا للحقيقة ومثلما ينقشع الظلام بانكشاف النور فإن الحقيقة ايضا هي معيار ذاتها ومعيار الحق هكذا يتضح أن البداهة معيار الحقيقة فالبديهي لا يمكن حجبه لأنه يعرض نفسه على المرء بوضوح تام .

3 - المحور الثالث : الحقيقة بوصفها قيمة 

يعالج المحور الثالث من مفهوم الحقيقة قضية مصدر ومنبع قيمة الحقيقة حيث سيتم التساؤل عن المصدر والمنبع الذي تستمد منه الحقيقة قيمتها هل هو المنفعة والإفادة والمصلحة أم هو ذاتها ؟

الحقيقة والإفادة : وليام جيمس 

ينتمي الفيلسوف الأمريكي وليام جيمس إلى الفلسفة البرغماتية وهي تيار فلسفي تعتبر المنفعة والإفادة معيار ومقياس قيمة الأشياء إن الحقيقة حسب جيمس تستمد قيمتها وأهميتها من المنفعة والإفادة فكلما كانت للحقيقة منفعة وإفادة أكبر كلما كانت لها أهمية أكبر والعكس بالعكس ويميز جيمس بين نوعين من الحقائق : حقائق نظرية تفيد العقل وحقائق علمية تفيد السلوك وهذا ما دفعه ليقول " الحقيقي هو ماهو مفيد لفكرنا والصائب هو ماهو مفيد لسلوكنا .

قيمة الحقيقة تكمن في ذاتها : كانط 

على خلاف التصور البرغماتي الذي تبناه وليام جيمس يقدم الفيلسوف الألماني كانط تصور القيمة الحقيقية يؤكد فيه أن الحقيقة لا تستمد قيمتها من المنفعة ولا من الإفادة وإنما تستمدها من ذاتها باعتبارها قيمة مطلقة ويوافق كانط بين الحقيقة والصدق ويعتبر الصدق واجبا أخلاقيا مطلقا يسري في جميع الظروف والملابسات بغض النظر عن المنفعة التي سيؤدي إليها أو الضرر الذي سينقدنا منه وبالمقابل يعتبر كانط الكذب صفة مذمومة حتى وإن كانت ستجلب لنا النفع والمنفعة إن ما يجعل الحقيقة تمتلك قيمة هو كونها حقيقة فمصدر قيمتها داخلي ذاتي لا يتعلق بالنتائج التي تتمحض عنها .

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال